الخميس، 11 مارس 2010

مصر لن تتغير بدون نضال سياسي جاد


11/3/2010م


بقلم د. بشير نافع


أثارت عودة السيد محمد البرادعي إلى مصر، وإعلانه عن عزمه خوض غمار العمل السياسي، وربما الترشح لرئاسة الجمهورية، جدلاً واسعاً وتوقعات مختلفة، داخل مصر وخارجها.
داخل مصر، أطلقت عودة البرادعي الأمل بإحداث تغيير سياسي سلمي وسلس، لا يمس استقرار البلاد أو شيوع الفوضى والعنف. أما في خارج مصر، فقد ولدت توقعات متباينة حول ما يمكن أن تكونه مصر في ظل قيادة جديدة، بعد أن اعتاد العالم على وجود ونمط قيادة الرئيس مبارك، الذي يحتل موقع الرئاسة منذ زهاء الثلاثين عاماً. صاحب عودة البرادعي ترحيب صاخب من دوائر النشطين الشبان الجدد وعدد من المثقفين والكتاب والصحافيين والوجوه الفنية والعامة؛ ولكن ذلك الترحيب ليس كافياً بالطبع للتدليل على اتساع وعمق التأييد للبرادعي، وإن كان كافياً للإشارة إلى أن هناك إمكانية ملموسة لأن يتحول الرجل إلى مرشح شعبي بالفعل. الخطوة الأبرز التي شارك فيها البرادعي تعلقت بتأسيس لجنة مصرية للتغيير، ضمت الأكاديمي المصري البارز د. حسن نافعة، ورئيس كتلة الإخوان المسلمين البرلمانية، وعدداً آخر من السياسيين المصريين المحسوبين على الجناحين الليبرالي والقومي، إضافة إلى الشخصيات المستقلة. وقد انتهت الزيارة الاستطلاعية بوعد من البرادعي بالعودة النهائية إلى مصر خلال فترة قصيرة، بعد أن ينهي بعض ارتباطاته في الخارج. السؤال الآن هو ما إن كانت آمال التغيير التي أثارتها عودة البرادعي ترتكز إلى أسس قوية وحسابات معتبرة.
المسألة الأولى التي ينبغي على أي شخصية قيادية ترغب فعلاً في تغيير الوضع السياسي المصري أن تبدأ بها تتعلق بالتعديل الدستوري؛ ففي ظل الدستور الحالي، الذي عدل في 2005 تعديلاً لا يكفي لتعزيز النهج الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية، لن يستطيع لا البرادعي ولا أي سياسي معارض آخر، الترشح للانتخابات الرئاسية. وحتى إن وجد البرادعي، أو غيره من الشخصيات المعارضة، وسيلة ما للالتفاف على المادة الدستورية التي تجعل عملية الترشح للرئاسة حكراً على الرئيس الحالي وقيادة الحزب الوطني الحاكم، وغض نظام الحكم النظر عن مثل هذا الالتفاف، فإن ذلك لن يحقق شرط الإصلاح الديمقراطي الضروري لإطلاق عملية التغيير. بدون أن تكسر إرادة الاستبداد والتحكم، لن يكون هناك تغيير؛ ويستوجب كسر إرادة الاستبداد فرض تعديل دستوري ديمقراطي وعادل ومنطقي، يأخذ أوضاع مصر في الاعتبار. والسيد البرادعي وكافة القوى والشخصيات التي انضوت في لجنة التغيير الوطنية الجديدة تدرك، كما يبدو، هذه الحقيقة. ولكن من غير الواضح حتى الآن ما إن كان هؤلاء يدركون حجم التكاليف التي لابد أن تدفع من أجل تحقيق هذا الهدف.
تتعلق المسألة الثانية بموقف القوى السياسية المصرية، سيما الإخوان المسلمين، وبالشريحة متعددة الأصوات والتوجهات من المثقفين والكتاب والأكاديميين المعارضين. عدد وتنوع الشخصيات التي شاركت في اجتماع لجنة التغيير التأسيسي يعبر عن بداية تبلور جبهة معارضة عريضة بالفعل.
من جهة أخرى، ليس ثمة أمل في أن يقف حزب التجمع اليساري أو حزب الوفد الجديد إلى جانب مشروع التغيير؛ فقد بات الحزبان أداة مقنعة في يد النظام. وكان لافتاً أن البرادعي التقى السيد عمرو موسى، وزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام الحالي للجامعة العربية، الذي يتمتع بشعبية يصعب تقديرها في الشارع المصري، وتردد اسمه كثيراً من قبل باعتباره أحد المرشحين المحتملين لمنصب الرئاسة.
وبالرغم أن من المؤكد أن البرادعي وموسى ناقشا الوضع السياسي المصري الداخلي، فقد كانت تصريحات موسى بشأن موقفه من مشروع التغيير أو ترشح البرادعي حذرة ومبهمة. كما أن الموقف الإخواني ليس بالوضوح الكافي، بالرغم من مشاركة رئيس الكتلة الإخوانية البرلمانية في اجتماع اللجنة التأسيسي؛ وفي المقابل، فإن موقف البرادعي نفسه من الملف الإخواني غير واضح. تصريحات البرادعي بخصوص الإخوان لم تحمل حتى الآن وعداً صريحاً بالاعتراف بهم كقوة سياسية شرعية؛ والقيادة الإخوانية بمصر لم تعلن حتى الآن دعمها لترشح البرادعي، ولا حتى استعدادها لخوض معركة التغيير السياسي. يتطلب مشروع التغيير بالتأكيد جبهة عريضة من القوى والشخصيات المصرية، ولكن من الصعب تصور مضي المشروع نحو التحقق بدون التزام إخواني قاطع بالمشروع، نظراً لثقلهم الجماهيري الكبير وقدرتهم على الحشد.
يرتبط شرطا التعديل الدستوري وتبلور جبهة عريضة بطبيعة الواقع السياسي المصري، وبالقوة الهائلة لنظام الحكم وعزمه الواضح على إجهاض أية حركة للتغيير مهما كانت العواقب؛ وهو الوضع الذي يمكن ملاحظته بما يلي:
أولاً، ما إن تيقن النظام من جدية التحدي الذي يمكن أن يواجهه في العامين القادمين، حتى تراجعت التوقعات بترشح السيد جمال مبارك لخلافة والده، وبات مؤكداً، ما لم يتدخل القدر بإرادته القاهرة، أن يكون الرئيس مبارك مرشح الحزب الوطني القادم للرئاسة، بالرغم من أن الرئيس تجاوز الثمانين من عمره بسنوات. في حال بروز تحد سياسي جاد، يستشعر النظام أن من الحكمة تجنب طرح مرشح، يصعب تحقيق التفاف كاف حوله من أركان النظام وجماعات الحزب الحاكم المختلفة، ومن دوائر الدولة والحكم الأساسية.
ثانياً، ليس ثمة شك في أن الأغلبية العظمى من الشعب المصري وقواه الفاعلة ترغب في إحداث تغيير سياسي، وأن الرأي العام المصري بات يتلمس وطأة نظام الحكم الثقيلة، ولكن من الخطل تصور النظام مجرد مؤسسة حكم معزولة وهشة. يمثل نظام الحكم في مصر تحالفاً مصلحياً وواعياً من طبقة نافذة من رجال المال والأعمال وقطاعاً من رجال السياسية ودوائر الدولة المختلفة. وقد بات معروفاً أن الطبقة الحاكمة المصرية تجمع الآن في قبضتها، وللمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث، مقاليد الاقتصاد والمال والقرار السياسي. ولكن التحول الذي لا يقل أهمية في بنية السياسة والحكم، والذي لا يلفت كثيراً من الانتباه، يتعلق بالتماهي المتزايد بين جهاز الدولة ونظام الحكم، إلى الدرجة التي لم يعد فيها من السهل، أو حتى من الممكن، التمييز بين ما هو شأن سياسي وحزبي وما هو شأن الدولة، بالرغم من أن الدولة المصرية تعتبر واحدة من أقدم الدول الحديثة وأكثرها رسوخاً في المشرق.
والحقيقة أن تحول دولة راسخة القواعد وبالغة النفوذ مثل الدولة المصرية إلى أداة لقوة أو طبقة سياسية ما هو في حد ذاته مؤشر إلى حجم القوة التي يتمتع بها نظام الحكم.
خلال العقود القليلة الماضية، تداخلت إلى حد كبير مصالح نظام الحكم ومصالح كبار رجال الدولة، وأصبح مصير أحدهما مشروطاً بمصير الآخر. كل أنظمة الحكم، حتى في الدول ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، تلجأ إلى توظيف واستخدام أجهزة الدولة لخدمة بقائها واستمرارها؛ في مصر، لن تحتاج دوائر الدولة كثير إقناع للقيام بهذا الدور.
الملاحظة الثالثة أن القوى العالمية والإقليمية المختلفة اعتادت على نظام الحكم الحالي، ليس فقط لأنها تعرفه معرفة وثيقة وحميمة، ولكنها أيضاً لا تجد صعوبة كبيرة في توقع سياساته وردود فعله. كان شاع عند وصول البرادعي القاهرة أن سجل خدمة الرجل في المؤسسات الدولية وعلاقاته الوثيقة بدوائر الحكم الغربية، بما في ذلك الدوائر الأمريكية، ستجعل منه هدفاً صعباً لنظام الحكم، وتجعل من العسير محاولة تشويهه أو محاصرته وقمعه. وهذا ربما صحيح نسبياً. ولكن في ما يتعلق بالقوى الغربية على الأقل، فإن من الصحيح أيضاً أن لدى نظام الحكم سجلاً أطول وأعمق وأكثر وثوقاً؛ وكذلك هو الأمر بالنسبة للدول العربية المعروفة بعلاقاتها الوثيقة بالقاهرة. لا يجب أن يخلط أحد في المعارضة المصرية بين الخطاب الغربي الداعي للديمقراطية ومصالح الدول الغربية في مصر والمشرق؛ وإن وضعت القوى الغربية أمام الخيار بين الديمقراطية والمصالح، فلن تتردد لحظة في اختيار المصالح، حتى إن كان البرادعي المرشح المنافس على الرئاسة.
فما الذي يعنيه هذا كله؟ الذي يعنيه باختصار أن مشروع التغيير في مصر، بغض النظر عن الأسماء المتداولة، ليس طريقاً سهلاً، ولا يمكن تحقيقه بمجرد تشكيل لجنة مطالب سياسية من عدد من الشخصيات البارزة، أو بطرح اسم مقبول غربياً. يتطلب مشروع التغيير قراءة دقيقة لشروط التغيير، لخارطة القوى السياسية المصرية، لاسيما القوى المعارضة، ووضع تصور عادل وواقعي للاستجابة لمطالبها وحاجاتها، يضمن حشد كافة القوى في جبهة عريضة. كما يتطلب قراءة أخرى لواقع النظام السياسي، وقواعد القوة التي يستند إليها.
والأهم أن تكون القوى والشخصيات التي ستخوض غمار معركة التغيير على وعي كاف بأن إصلاحاً سياسياً في مصر لا يمكن إنجازه بدون حشد واسع لقوى الشعب المصري ذاته، وأن النظام لن ينحني لمطالب الشعب والمعارضة بسهولة ويسر؛ وأن حراكاً جماهيرياً واسعاً وطويلاً لا بد أن يطلق قبل أن يبدأ النظام في مجرد التفكير بالاستجابة لهذه المطالب. في خضم هذا الحراك، قد تشهد مصر حملات اعتقال واسعة النطاق، وربما حتى قتلى، ولا بد أن يكون لدى قادة المعارضة الاستعداد لتحمل عواقب هذا الحراك، تماماً كما عموم الشعب.
أوضاع مصر الداخلية والخارجية لم تعد تسر أحداً، ولم يعد حتى قادة النظام يستطيعون تبريرها والدفاع عنها. وليس ثمة شك في أن تغييراً لا بد أن يقع. ولكن النخبة المصرية لا بد أن تدرك أنه حتى في مثل هذا الوضع، فإن لمشروع التغيير ثمناً لا بد أن يدفع.

ليست هناك تعليقات: