السبت، 6 فبراير 2010

لماذا لا ننتقد أنفسنا؟



بقلم : د. على الدين هلال


من الملاحظات علي سلوكنا العام هو العزوف عن توجيه الانتقاد أو اللوم علنا عند حدوث خطأ أو حادث كبير يترتب عليه خسارة مادية أو بشرية كبيرة‏,‏ ونكتفي بتحويل الموضوع الي التحقيق القانوني والقضاء‏..‏

وأقصد بذلك أن هناك نوعا من العزوف الاجتماعي والسياسي عن ممارسة النقد أو مواجهة الآخرين بأخطائهم وحتي عندما يتم تشخيص الأسباب التي أدت الي وقوع الحادث أو الخطأ فإنه لا يتم تحديد المسئولية السياسية أو الأخلاقية عما حدث‏,‏ وأريد من القارئ الكريم أن يتأمل في مشهدين‏:‏
المشهد الأول في الولايات المتحدة فبعد أقل من يومين علي حدوث المحاولة الإرهابية الفاشلة للشاب النيجيري عمر عبدالمطلب لتدمير طائرة كانت تتجه الي مطار ديترويت كان الرئيس أوباما يوجه انتقادات حادة ومباشرة الي إجراءات الأمن التي تفرضها السلطات الأمريكية علي المسافرين‏,‏ كما وجه انتقادات مماثلة لأجهزة المخابرات الأمريكية بشأن التأخر والتراخي في التعامل مع المعلومات التي وصلتها بشأن هذا الحادث‏,‏ وقال إنه كان من الممكن منع هذا الحادث من الوقوع لو قامت أجهزة المخابرات بتحليل تلك المعلومات مبكرا‏.‏
وطالب الرئيس الأمريكي هيئات الطيران المدني وأجهزة الأمن بالتشديد في الأساليب المستخدمة في المطارات وهو ما تم تنفيذه فعلا‏,‏ وكل هذا حدث قبل بدء الجهات القضائية في بحث الموضوع‏,‏ والدرس هنا أنه عندما يحدث خطأ ما فإن الأمر له جانبه السياسي والأخلاقي العام الذي لابد من مواجهته فورا لتأمين مصالح الناس واتخاذ الإجراءات الكفيلة‏,‏ لأنه مادام قد وقع خطأ أو جريمة ما فإنه لابد من اتخاذ إجراءات تنفيذية سريعة لمنع هذا الأمر من التكرار مرة أخري‏.‏
المشهد الثاني في مصر‏,‏ ففي مطلع شهر يناير وقعت أحداث إجرامية ذات توجه طائفي في مدينة نجع حمادي‏,‏ وفي نفس الشهر وقعت كارثة طبيعية هي السيول التي أصابت عددا من المحافظات‏,‏ ومع كثرة الكتابات والتعليقات والتأويلات وتبادل الاتهامات بين المسئولين‏,‏ فإنني لم أطلع في الجرائد علي قرار محدد من مجلس الوزراء بشأن تقصير ما حدث في أداء السلطة التنفيذية أو قرار من شأنه الحيلولة دون تكرار ما حدث‏.‏
ويبدو أن هذا السلوك هو سمة ثقافية عامة في حياتنا الاجتماعية والسياسية تتعلق بمدي استعدادنا للحديث عن التقصير وأسبابه‏,‏ والملاحظ أننا نجد توجها جاهزا للتقليل من خطورة الحدث والتهوين من آثاره والتأكيد أنه حدث فردي أو أنه غير متوقع وأنه لم يكن من المتصور أن تستعد الأجهزة التنفيذية لمواجهته لأنه يتكرر مرة كل عشرين أو ثلاثين سنة‏,‏ ويجد أصحاب هذا التوجه التبريرات والتفسيرات لعدم الاستفادة من المعلومات التي حذرت من حدوث عمل اجرامي أو كارثة طبيعية‏.‏
نفس الظاهرة نجدها عند تغيير الوزراء حتي عندما يتم تغيير أحد الوزراء بمفرده‏,‏ كما حدث في حالة تغيير وزيري الري والتعليم أخيرا‏,‏ مع أن الوزارة هي منصب سياسي ويجوز تغيير شاغله في أي وقت اذا ما حدث خلاف في الرأي بين الوزير ورئيس الوزراء‏,‏ أو اذا اتبع هذا الوزير سياسة مخالفة للتوجه العام للوزارة أو اذا جاءت النتائج التي حققها هذا الوزير في وزارته لا ترقي الي الأهداف الموضوعة‏,‏ وليس في هذه الأسباب ما يقلل من شأن الوزير أو يشينه بأي شكل من الأشكال لأنها أمور تتعلق بالصالح العام ونظرة كل واحد لكيفية تحقيقه بل نجد في التصريحات الرسمية تأكيدا أن الوزير الذي تم تغييره قد أدي عمله علي أكمل وجه مما يوجد حالة غموض لدي الرأي العام حول أسباب التغيير‏.‏ وبنفس المنطق نلاحظ أيضا حالة امتناع عن نقد السياسات التي طبقت لفترة ولم تحقق أهدافها حتي عندما يتطلب الأمر تغييرها وتعديلها‏,‏ والأمثلة عديدة مثل سياسة تنظيم الأسرة أو سياسة تعزيز مبدأ المواطنة وثقافة التسامح وقبول الاختلاف وسياسة اللامركزية الادارية‏,‏ فهذه السياسات التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة من عشرين عاما أو يزيد لم تحقق الأهداف المرجوة‏,‏ فإن بقي الأمر علي ما هو عليه أو تفاقمت المشكلة واستفحلت‏,‏ وبدلا من مناقشة الأسس التي قامت عليها تلك السياسات وأساليب تنفيذها والموارد التي خصصت لها والبحث في جوانب القصور أو الإخفاق المرتبطة بأي من هذه الجوانب‏,‏ نجد حديثا عاما يخجل من نقد السياسات المتبعة أو الإقرار بأنه قد تم اتخاذ قرار خاطئ في مرحلة ما‏.‏
وعلي سبيل المثال‏,‏ فإن قرار إلغاء وزارة السكان وإدماج قطاع السكان ضمن وزارة الصحة‏,‏ كان قرارا خاطئا في تقديري وكان يمكن للمراقب أن يتوقع النتائج التي حدثت فعلا والتي استدعت في مرحلة لاحقة إعادة الوزارة تحت اسم وزارة الأسرة والسكان‏..‏ وفي هذه الحالات لا نجد من المسئولين إقرارا بأن ثمة خطأ قد حدث وينبغي تصحيحه ولكن نجد تفسيرات عامة لا تقنع أحدا مثل القول بأننا ندخل مرحلة جديدة تستدعي إقامة مؤسسات جديدة أو أن هذا التغيير استوجبته ظروف المرحلة‏.‏
لماذا هذا الاتجاه الذي نجده في المجتمع كما نجده في الحكومة؟ لماذا هذا العزوف عن الحديث عن الأخطاء والتقصير؟ ربما يكون ذلك أولا لأن الخطأ يرتبط في ثقافتنا بمفهوم العيب فالخطأ عيب ومن العيب أن يخطئ الإنسان‏,‏ لذلك لا يعترف أحد منا في أغلب الأحوال بأنه ارتكب خطأ ما ويسعي بوعي أو لا وعي لإيجاد التبرير لسلوكه‏,‏ وهذا اتجاه خاطئ وغير صحيح لأن الكمال لله وحده وسمة الإنسان القصور والخطأ سلوك انساني وارد‏,‏ واذا تجاوزنا مؤقتا عن هذا السلوك الاعتذاري والتبريري في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد‏,‏ فإنه لا يمكن قبوله في الأمور العامة المتعلقة بالحكم ومصالح المواطنين‏,‏ ففي القضايا العامة من الوارد أن يختلف الوزراء والمسئولون حول رؤيتهم للصالح العام‏,‏ ومن الوارد أن تكون بعض الاجتهادات صحيحة والأخري خاطئة ولا توجد جريمة في هذا الشأن طالما أن كل الاجتهادات لا تنبع عن هوي خاص أو تسعي لتحقيق مصالح لبعض الأفراد‏.‏
وعندما نقرأ مذكرات رؤساء الدول والوزارات في الدول الديمقراطية الراسخة نجدهم يتحدثون صراحة عن ظروف اتخاذهم للقرارات واضطرارهم أحيانا لاتخاذ قرارات خطيرة بناء علي معلومات غير دقيقة أو غير كاملة ولا يجدون في هذا غضاضة أو حرجا‏,‏ ولا يوجد سياسي أو مسئول تنفيذي يستطيع أن يدعي أن جميع قراراته كانت صائبة أو سليمة تماما‏,‏ ولو كان الأمر كذلك ما كانت النظم السياسية الحديثة قد أقامت مؤسسات للرقابة والمتابعة‏,‏ ونعطي مثلا بما تقوم به اللجنة البرلمانية في انجلترا حاليا ببحث تفاصيل ظروف اتخاذ الحكومة الانجليزية قرارها بالاشتراك في حرب احتلال العراق‏2003,‏ وما هي الأسباب القانونية والعملية التي استند إليها ذلك القرار‏,‏ والخلاصة أن من يعمل يخطئ وأنه لا يوجد بشر معصوم من الخطأ أيا كان منصبه أو اختصاصه‏.‏
وربما يعود هذا العزوف عن الإقرار بالخطأ ثانيا الي أن الاعتراف بالخطأ أو توجيه الاتهام لسياسة ما بالقصور تعني تغيير الوزير أو المسئول المختص‏,‏ وهذا أيضا تصور ينبغي مراجعته وتجاوزه فلو أن كل وزير اتخذ قرارا خاطئا تم تنحيته أو استقالته لخلت الوزارات من شاغليها‏,‏ وليس عيبا أن يصدر الوزير أو المسئول قرارا خاطئا ما بسبب نقص المعلومات المتاحة عند اتخاذ القرار أو خطأ في كيفية عرض الموضوع عليه أو ظروف السرعة في اتخاذ القرار في أوقات الأزمات‏,‏ ولكن العيب هو الاستمرار في الخطأ وتقديم مبررات له‏,‏ فإذا كان حدوث الخطأ واردا فإنه من الضروري أن تكون هناك آليات مؤسسية للمراجعة والتقويم وتصحيح الأخطاء‏.‏
وربما يعود هذا العزوف عن الاعتراف بالخطأ‏,‏ ثالثا الي شخصنة السلطة والربط بين الموقع الوزاري وشاغله وبين تبني سياسة أو قرار ما بأشخاص محددين‏,‏ وهذا السبب أيضا غير صحيح‏,‏ فسياسة التعليم أو الصحة أو غيرهما من السياسات العامة لا تصدر بين يوم وليلة ولا ينفرد بها شخص واحد ولكن يشارك في صنعها واتخاذها عشرات الخبراء والمستشارين وأعضاء البرلمان والرأي العام من خلال أجهزة الإعلام‏,‏ أضف الي ذلك أن هذه السياسة يتم تبنيها وفقا لمعلومات وبيانات معينة فإذا اتضح خطأ هذه المعلومات والبيانات فإنه يكون من الضروري تغيير تلك السياسة أو القرار دون مساس أو تعريض بأشخاص من شاركوا في اتخاذها‏,‏ وهناك احتمال أن تكون السياسة صحيحة من الناحية النظرية ولكنها طبقت بطريقة خاطئة‏,‏ أو أنه لم يتم تخصيص الموارد المالية والبشرية اللازمة لتنفيذها‏,‏ وأحيانا يتم تبني سياسة ما وعند التطبيق يتضح أن هناك قوانين أخري تحول دون تنفيذها بالشكل المطلوب أو أنها لم تشمل كل الفئات التي ينبغي أن تدخل في إطارها‏,‏ كل هذه احتمالات تجعل من الطبيعي أن يحدث قصور أو فشل في تنفيذ بعض السياسات‏.‏
والمطلوب هو مواجهة أكثر صراحة وشجاعة في تناولنا للأمور العامة‏,‏ وأنه عندما يحدث خلل أو كارثة اجتماعية أو طبيعية فإن الأمر يتطلب إعلان الأسباب والظروف التي أدت اليها‏,‏ وتحديد جوانب القصور في التشريعات والمؤسسات والإجراءات التي أسهمت فيها‏,‏ بل يمكن القول إن ظروف مواجهة الأزمات هي أفضل الأوقات الكاشفة لمواطن الضعف والقصور وأن علي المجتمعات الناهضة اقتناصها واستثمارها لتطوير أوضاعها‏,‏ ذلك أن ضعف أو غياب القدرة علي نقد الذات هو الوجه الآخر لغياب القدرة علي الابتكار والتجديد‏,‏ فالابتكار الاجتماعي والسياسي لا يأتي مصادفة أو بطريقة عشوائية‏,‏ ولكن يحدث في إطار التفاعل بين الإنسان وواقعه وفي سياق سعي النخب الحاكمة لتحسين ظروف مجتمعاتها‏.‏
فثقافة مواجهة الذات والاعتراف بالقصور واتخاذ إجراءات لمواجهته هو طريق التغيير والاصلاح وتحقيق التقدم‏,‏ وكما أن علينا نقد أنفسنا في حالات القصور فإن علينا ـ ولنفس الأسباب ـ تقويم أنفسنا في حالات النجاح واستخلاص الدروس المستفادة ولعل في أداء منتخبنا القومي لكرة القدم نموذجا فريدا للنجاح من المهم الاستفادة منه واستلهامه في مجالات أخري‏.‏

ليست هناك تعليقات: